نحن نسلم بأن الشـــــرق القديــــم، سبق اليونان إلى أشياء كثيرة، من المعارف و الآراء و الأفكار... و أن اليونان أخذور عنهم، و لكننا نقول إن تلك تلآراء و الأفكار و المعارف...اتخذت عندهم شأنا آخر بالتحليل و البرهنة... و أنهم زادوا عليها أمورا كثيرة.
إذا كان الأمر كذلك، في علاقة الشرق القديم بالحضـــارة الإغريقيـــة، فإننا يمكن القول، بأن الإغريق لم يكونوا مجرد تلاميذ بلداء، يكررون ما أخذوه عن غيرهم، بل تميزوا بالقدرة الفائقة على أن يصنعوا مما أخذوه، سيئا جديدا، يتفق مع ميولاتهم و رؤيتهم للحياة و أسلوب عيشهم... حتى صار من المتعذر أن نحدد بدقة ما يدينون به لحضارات الشرق القديم.
و في سياق الحديث عن بزوغ هذا التفكير الجديد، تفاعلت عوامل عديدة، آلت إلى ميلاده، و من هذه العوامل:
- العامل التاريخي: كان قد تم للأمة اليونانية مقومات وجودها، فيما بين القرنين 15 و 9 ق.م . و ذلك بعد أن تم اندماج القبائل المختلفة التي استقرت في شبه جزيرة " المورة " و انتشرت في " البلقان " و جزر " بحر إيجه " و ساحل " آسيا الصغرى " الغربي و جنوب " إيطاليا " و " صقلية "، و هي المناطق التي أطلق عليها اسم اليونان الكبرى.
-العامل الاقتصادي:لقد كان العمل في ايتخراج المعادن، و اكتشاف الحديد، و تعميم صناعته و صهره في القرن 9.ق.م. بمثابة ثورة اقتصادية كبرى، ساعدت على سرعة تطور المجتمع اليوناني اقتصاديا، إلى جانب التجارة و الزراعة. كما نشطت في المدن الساحلية مثل " ملطية " و " ساموس " صناعة النسيج و المعادن. لقد عرف المجتمع الإغريقي، تطورا اقتصاديا، تمثل في التحول ألى النشـــاط التجـــاري و "الصناعي"، بدل الاعتماد على النشاط الرعوي و الفلاحي. و رافق ذلك ظهور "العملة النقدية". و معلوم أن التعامل بالنقود يساعد على تنامي الفكر التجريدي بالقياس إلى التجارة المعتمدة على المقايضة.
- العامل السياسي: فقد شهدت المدن اليوناية خاصة، ابتداء من ق.6ق.م. تطورات سياسية في غاية الأهمية، إذ لم يعد النظام"الألغارشي" الذي كان يولي الحكم للنبلاء، يناسب التحول الاقتصادي و الاجتماعي، الذي دفع بطبقة جديدة من أغنياء التجارة و الصناعة إلى مركز القوة و السلطان، و جعل نفوذ الأسرة الأرستقراطية النبيلة يتضاءل إلى جانبها، بحيث على المستوى السياسي، تبلورت التجربة الديمقراطية في الحكم، و التي أفقدت الشعب ثقته بحكامه النبلاء إثر هزيمتهم أمام الفرس، لا بل أفقدهم الثقة حتى في "آلهتهم" التي لم تعد تقوم بنفس الدور الناصر للإغريق.فتزعزعت ثقتهم بمعتقداتهم و حكامهم، و طغت موجة تاشك و النقد و الجدل و الحوار... و انتشر الوعي و الحكم الديمقراطي و المعادي لكل قديم، حكما و فكرا و معتقدا. و بلغ هذا الجدل أوجه في ظل التسامح الديمقراطي لوليد. بحيث أصبح من حق كل مواطن من واطني الدولة/المدينة، أن يعبر عن آرائه و مواقفه و تصوراته... في كل القضايا، و يشارك في هذا النقاش و الحوار، في"الأغورا" (الساحة العمومية)، و هو مكان مفتوح لجميع الآراء و الأفكار و الأقوال القائمة على الحجة و البرهان.
- العامل الفكري-الثقافي: في هذا الإطار، أصبحت التصورات الأسطورية الإغريقية، غير قادرة على استيعاب و تفسير المتغيرات الجديدة في المجتمع الإغريقي. و كان لاكتشاف "اللوغوس" أثره في إزاحة"الميتوس". إلا أن الشرط الأساسي في عقلنة الروح و الثقافة اليونانية، لعله يرجع إلى التقدم الذي عرفته المعرفة العلمية، و خاصة في مجال الرياضيات و الفلك. إذ من المعلوم أن جل الحكماء الإغريق، مثل: "طاليس" و "فيثاغورس" ...كانوا رياضيين و فلكيين قبل أن يكونوا فلاسفة.
و هنا تجذر الإشارة، إلى أن الفكر الإغريقي يتميز عن الفكر الشرقي القديم، نوعيا، في الحقل الرياضي، ذلك أن الرياضيات البابلية و الفرعونية... القديمة، كانت سجينة الحواس و المنفعة و الحياة اليومية... بينما عند الإغريق، حصلت طفرة نوعية، تمثلت في أن الرياضيات أصبحت موضوع تفكير علمي، يهتم بالتفسير و التنظير و التعميم و الاستدلال و التجريد بالمعنى العقلي.
غير أن الفكر اليوناني لما كان متحررا من الالتزام بدين سماوي أو كتاب مقدس، فقد أطلق العنان للعقل فرفض الاعتراف بأية سلطة غير سلطة العقل. و في ذلك يقول "هيرقليطس": "دعونا نصغي لحكمة اللوغوس". و هذا التوجه العقلاني يخالف الأسطورة، على مستوى آليات و نظام التفكير. و كما خالفت الفلسفة الأسطورة و أ‘لنت عداءها لها، فإنها اعتبرت المعتقدات الدينية الأسطورية، مجرد أفكار تخص"العامة و الغوغائيين من الناس" ، لا لشيء إلا لأن الفكر الفلسفي يرفض القول بوسيط(الوحي) تعلو سلطته على العقل، الذي هو المصدرالوحيد للمعرفة. و معلوم أنه عندما خطا الإنسان خطواته الأولى على درب العقل، أصبحت كل أشكال التفكير الأخرى لامعقولة، و غير ذات معنى، و لا قيمة لها في المنظور الإغريقي.
لقد رافق التطور الاقتصادي و السياسي... نهضة فكرية عظيمة، أثمرت الفلسفة و العلم و الأدب... و من أسباب هذه النهضة أيضا، تبسيط الأبجدية اليونانية، بحيث أصبحت القراءة و الكتابة ميسورة، و في متناول كل الناس، فكان من نتائج ذلك انتشار المعرفة بين الجمهور، بعد أن كانت حكرا على بعض الناس فقط." لقد كانت السلطة في المدينة مشتركة و مشاعة و وضعت في المركز، كذلك الثقافة مشتركة و مشاعة و وضعت في المركز، و لم تعد امتيازا لبعض العائلات أو بعض الأدباء و المثقفين. نعم إن هذه الإشاعة الديمقراطية للثقافة صارت ممكنة بفضل انتشار الكتابة الأبجدية التي تتيح للمواطنين جميعا تعلم القراءة و الكتابة. و فضلا عن ذلك، فإن المجال كان مفتوحا أمام جميع المواطنين من خلال المشاركة في الحفلات و الحضور في المسارح للاستمتاع بجميع الإبداعات الفنية و الأدبية... لقد ترتب على هذا الاقتران بين إشاعة السلطة و إشاعة الثقافة نتاج كان لها أثر حاسم في تطور الأفكار عند اليونان.
- العامل الجغرافي:نجد العوامل السابقة قد تفاعلت جميعا على أرضية ساعدت على إغناء التجربة الفكرية و الثقافية و إهصابها. فشبه الجزيرة اليونانية، تقع على حافة العالم الغربي، و تطل على البحر المتوسط بين الشرق و الغرب. و هي تتألف من جزر عديدة، تتفاوت في مساحتها و خيراتها و طبيعتها، قد نشأت عليها مدن تكاد تكون دولا صغيرة(الدولة/المدينة)، لكل منها نظامها و قوانينها و تشريعاتها... (أنظر الخريطة في الكتاب المدرسي.ص:16).
إذن،إن الفلسفة تنتمي إلى الثقافة، و لكن بوصفها شكلا أساسيا من أشكال ماضي الفكر البشري، و بوصفها عودة إلى ذلك الماضي. و لعل هذا ما يشير بوضوح إلى الارتباط الأساسي للفلسفة بحاضر الإنسان و تاريخه، أي إلى ضرورتها. و إذا كان الضروري هو ما لا يمكن ألا يكون فلا ضرورة على الإطلاق إلا لما هو أزلي، و ما له بداية و نهاية في الزمان و المكان أن يكون ضروريا ضرورة مطلقة.بحيث إن حدوثه أو نهايته يعنيان أنه يمكن ألا يوجد. فالحال إذن، أن الفلسفة ليست ضرورية ضرورة مطلقة مادامت لها بداية تاريخية.
إن ظهور الفلسفة يمنحها بعدا تاريخيا و يجعلها مرتبطة بهذا البعد.وبالتالي فالفلسفة منتوج ثقافي، أنتجه نشاط الإنسان العقلي، له نشأة في الزمان و المكان. إلا أن الانتقال في الحديث عن هذه النشأة من التحديد المكاني و الجغرافي إلى المكان النظري، و من زمان النشأة إلى زمن الفلسفة الخاص، يعني طرح مسألة بداية الفلسفة و أصلها.
و تجذر الإشارة إلى أن معارف اليونان، في الأسطورة، كانت في مجموعها، قد خزنت في مقطوعات ملحمية كبرى، و حكايات مأثورة، تشمل بالنسبة للإغريق ذاكرة جماعية و موسوعة من المعارف المشتركة. في هذه الأسطورة كان اليوناني يجد كل ما ينبغي عليه معرفته عن الإنسان و عن الآلهة و الأسر و أنسابها و عن العالم و صورته و أصوله...
كما أن فلاسفة اليونان ليسوا منشدين و لا شعراء و لا رواة، و إنما يعبرون عن أنفسهم نثرا و في نصوص مكتوبة لا ترمي إلأى نسج حكاية و إنما تعرض فيها نظرة تشرح فيها بعض الظواهر الطبيعية و انتظام الكون. لذا فالانتقال من الشفوي إلى المكتوب، ومن الأنشودة الشعرية إلى النثر، و من الرواية و السرد إلأى التفسير و الشرح، كان يستجيب لنوع من البحث جديد كل الجدة.
لقد كانت الأسطورة، حكاية و لم تكن حلا لإشكال. إنها تروي مجموعة من الأعمال المنظمة التي كان يقوم بها الملك أو الآلهة، لكن إضافة إلى هذا، يمكن الحديث عن بعض السمات الثابتة، بحيث ليس من قبيل الصدفة أن تظهر الفلسفة و هذا الفكر العقلاني، لأن هذا العقل اليوناني ظهرنتيجة لذلك الشكل من المؤسسات السياسية الذي يدعى" المدينة ". فمع ظهور "المدينة" و لأول مرة في تاريخ الإنسان، أخذت المجموعة البشرية تعتبر أن شؤونها العامة لا يمكن أن تتخذ إلا بعد جدال عمومي متناقض، يساهم فيه الجميع، و تتعارض فيه الخطابات المدعمة بالبراهين و الحجج. فإذا كان الفكر العقلاني قد ظهر في المدن الإغريقية لآسيا الصغرى، مثل "ملطية"، فذلك لأن القواعد المتحكمة في السياسة داخل إطار "المدينة"، أصبحت هي ذاتها القواعد المتحكمة في التفكير، و هذا يقتضي أن مفهوم الجدال و المحاجة التي تقبل باختلاف الآراء و تضاربها يشكلان شرطا أساسيا للعقلانية. فلاعقلانية إلا إذا قبلنا أن جميع الأسئلة و القضايا يمكن أن تكون موضوع جدال مفتوح، عمومي و متناقض.